الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

اللهم دبر لنا ما أعجزته الحيل.. ويسر لنا ما تعسر.. ووسع أرزاقنا.. وأغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك..

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الفصل الأخير








ظن أنه آمن في ذلك الركن المظلم.. اغمض عينيه كما علمته أمه ان يفعل حين يرى أمرا يفزعه.. خيل إليه أنه يسمع وسط أصوات الحطام والسباب صراخ أخته الصغيرة.. تسلل بين أرجل الرجال وفي لمح البصر كان يحتضنها بذراعيه ورجليه ويظللها بذقنه ويخفي وجهها بشعره الأسود اللامع..
إنها المرة الثالثة التي يرتادون فيها منزلهم الصغير.. يحطمون اغراضهم.. ويعبثون بألعابه وخيمته الأثيرة.. سمعهم يسبون أمه وأبيه.. كان أكثر ما يفزعه هو صوت الرصاص..
يحبس دمعه ككل مرة، و يكاد الانكسار أن يتسلل إلى نفسه ،، حتى ينظر في عيني أمه فلا يجد منها سوى الاستخفاف بهؤلاء؛ فتملؤه القوة مجددا.. ويعود ليغمض عينيه ويملأ أذنيه بأصوات يألفها حتى يهدأ الضجيج..
تجلس أمه بلا حراك.. وهي تنظر بذهول إلى أكوام الفوضى وقطع الزجاج.. ثم تستلقي وسط الركام ويستلقيا معها.. ليناموا حتى الصباح وكأن شيئا ما كان..

لم يكن كثير السؤال.. بل.. لم يكن كثير الحديث على الإطلاق.. لكنه عرف كل ما لا يحب أن يعرف.. توقف عن استطلاع أوقات عودة والده.. فكر بأنه سيكون سخيفا وقاسيا إذا تحدث مع أمه عن هذا الأمر.. فاختار الصمت واصطنع النسيان إلا من غصة في قلبه تنبض عدة مرات كل يوم ليظل عقله يفكر؛ كم يفتقد والده..

***

استمر الأمر طويلا.. 
ثم كان يوم كباقي الايام ، استقبلته أمه وقد لبست ثياب الرحيل.. بدت أجمل من أي وقت مضى،، أخبرته بأن لديها مفاجأة سيحبها كثيرا.. وخزته غصة قلبه تلك.. ركبوا في السيارة لساعات طويلة قبل ان يتوقفوا ويسيروا في الظلام وهم يحملون الكثير من الحقائب في منطقة تبدو رائحتها كخليط من العشب وروث البهائم.. استقبلهم بمزاحه وضحكاته المعهودة ،، أنيقا كعادته حتى في ثياب النوم ،، أمضوا عدة أيام حكى فيها لأبيه عن كل ما فاته في غيابه..
تكرر الأمر على فترات متباعدة.. أسابيع يحملون فيها هم الدنيا ثم يلتقون بحبيبهم ليطفئ عناقه الحار كل شوق وكل تعب.

***

سألها على استحياء.. فقد طال الغياب ،،  همهمت له بأن الأمر لم يعد سهلا وأن التدابير المطلوبة تعقدت أكثر.. أحزنته الأنباء بقدر ما أسعده أن أمه كانت تتحدث إليه بصراحة وتنظر إليه بإكبار بينما نظرة التحدي التي يألفها تخترق كامل جسده ليشعر بقوة وراحة..
اعتاد أن يسأله الناس عن والده أو أن يشير أحدهم إليه بنظرة شفقة ؛ كان يضحك منهم في داخله وهم يتذاكون ويغلفون فضولهم وشماتتهم بمزيج من القلق والاهتمام..
لم يعد يطرق بابهم طارق.. لم يعد يرى وجوه أصدقاء والده ولا حتى أقاربه.. كانوا إما خائفين، وإما مشغولين بمصير مماثل ،، باستثناء ذلك العم الذي يأتي مرة بعد مرة حاملا الكثير من الأشياء التي يحبونها.. يسلم عليهم ويلاعبهم ثم يحيي أمهم ويمضي وهو يتعثر في خجله..

***

مرت أيام على آخر مرة اقتحموا فيها بيتهم ، لا يستطيع أن يمسح صورة والدته وهي تتهاوى في ضعف تحت كعب بندقية أحدهم، أو صورة أخته بجوارها تنتحب، ثم أصوات أبواب الجيران وهي تغلق غير عابئين بصراخ الصغيرة وقد شق سكون الليل. . استفاق من شروده على صوت معلمته وهي تطلب من زملائه أن يصفقوا له.. علاماته هي الأفضل كالمعتاد ،، لكنه لم يعد يكترث.. لم يعد هذا بالشيء الهام.. بل لم يعد ثمة ما يبهجه فعلا في هذا العالم ..
شرد في أفكاره ثانية ليبصر نفسه وهو يتسلق كتفي والده بينما يدغدغه الأخير فيرتج جسمه ضاحكا وتتسارع أنفاسه من فرط الحماس.. أو وهو مستلق في سريره ليشعر بوالده يسحب عنه الغطاء ويحمله بمرح  الى دورة المياه ثم يحمله مرة اخرى ثم مرة ثالثة وأخيرا يفتح عينيه ليجد نفسه على طاولة الإفطار مرتديا ثيابه وشعره ممشط..

***

راح في سبات عميق بينما يجلسون في سيارة ذلك العم.. استيقظ وقد حل الليل ليجدهم قد وصلوا إلى أرض صخرية موحشة.. مشوا طويلا حتى كاد يشعر بالتعب فرآه قادما من بعيد.. أفلت يد أمه وركض ليغيب بين أحضانه.. تناولوا عشاءا رائعا واستعد ليحظى بنوم هادئ في كنف والده.. نام قليلا ثم استيقظ على أصوات عالية ؛ صفير.. انفجار وتحطم.. طرقت أذنيه أصوات السباب ذاتها قادمة من بعيد ،،
من المؤكد أنه يحلم.. هكذا فكر عقله الصغير..
المكان كان قد امتلأ بهم.. أخذوا يطلقون الرصاص على الحوائط والمرايا والأثاث القليل.. أحدهم يجذب أمه من شعرها وهي تقاومه وترجوه أن يتركها لتأتي بما تستر به جسدها.. الآخرون يركضون في كل الاتجاهات

-لقد هرب
-ابحثوا عنه

لا يعرف كيف حصل وما..
زخات رصاص متتالية
صراخ والدته..
جسد والده مسجى وقد أغرقته الدماء..
أسرع راكضا نحوه فركله أحدهم إلى الأرض الصخرية.. تحامل على ألمه وركض ثانية.. وخزه شيء ما ببطنه ،، شعر بدفء مفاجئ ،، سمع أصوات رصاص قادمة من بعيد لكنها لم تخيفه ،، ثم هب نسيم بارد محبب.. كم يرغب الآن في نوم عميق..

اشتعلت أضواء مبهرة

-هيا ابدؤوا التصوير

فرغ المكان شيئا فشيئا..
إلا من صغير يرقد تحت ذراع والده..
وجدول من ورد ومسك يجري من بين أحشائهما ليبارك غبار الأرض، ويختلط بثيابها ودموعها وهي تحتضن كليهما..


مين فات قديمه تاه ..