الجمعة، 19 فبراير 2016

يا جدي الحبيب



منذ سنوات كنت طفلة صغيرة خجولة أنزل درجات السلم القليلة ثم أقف على أطراف أصابعي جاهدة لأطال جرس الباب ثم يفتح الباب فأدخل على استحياء لأجدك جالسا في شمس الشرفة أو ربما وجدتك في مكتبك ترتدي نظارتك وتدقق في الأرقام والحسابات.. وقد يتناهى إلي صوتك وأنت ترتل القرآن فأجري إلى غرفتك لأجدك تقرأ بترتيل منتظم جميل.. في كل الأحوال.. تفتح ذراعيك إلي.. أقبل يدك وتقبل رأسي ووجنتي.. تمشي أمامي إلى صندوق الحلوى لتعطيني منها فأفرح وأمضي مرتاحة إلى بيت أبي..
كبرت قليلا وكنت أراك قبل كل فجر تمشي إلى المسجد.. مهما كان البرد والمطر.. ومهما اشتدت الرياح.. كنت أراقبك من نافذة منزلنا عند كل أذان.. تمشي وماء الوضوء يقطر من وجهك ولحيتك.. فيزيدك جمالا وضياءا..

لطالما كنت صائما في هجير الصيف لا تبالي وقائما في جنح الليل لا تمل ولا تنقطع.. لطالما كررت على أسماعنا يا جدي أن من حفظ الله في جوارحه في صغره حفظها الله عليه في كبره..

توفيت جدتي الحبيبة قبل ثمانية عشر عاما.. رأيتك تبكي بكاءا مريرا تقطعت له نياط قلبي.. مرت السنوات ولم يفتر حبها في قلبك ، ولم ينقطع ذكرها عن لسانك.. لم تغب تفاصيلها وطقوسها فيك وفي البيت، لم تغب أبدا عنا..

كبرت أكثر وتعلقت بك أكثر واستشرتك مرات كثيرة في أموري الخاصة جدا ومشاكلي ومخاوفي ،، وشغفت بأحاديثك وحكاياك عن طفولتك وعن عملك في صباك بالنجارة وعن مراهقتك الهادئة التي تخللها زفافك بجدتي الحبيبة.. عن مقاومتك للاستعمار ودورك في حرب فلسطين ..عن فترات سجنك الطويلة.. وصنوف العذاب الجسدي والنفسي الذي ذقته وذاقته جدتي وأولادها على يد عبد الناصر.. وكيف تستخرج المنحة من قلب المحنة، والأمل من قلب الألم، والصبر من قلب الفقد.. الفقد يا جدي ، وآه وألف آه من الفقد وما يتبعه..
أكاد أرى ملامح وجهك أمامي وأنت تحكي عن رؤياك بوفاة أبيك وأنت في المعتقل وعن تصديق هذه الرؤيا وعلمك بالخبر ، ومشاعرك ، ودموعك، وافتقادك للضوء الذي لطالما أضاء حياتك وقلبك.. أكاد أسمع صوتك وأنت تحكي لنا كيف عملت جدتي بالحياكة وصنع الحلوى لتكف نفسها واولادها ذل السؤال لسنوات طويلة.. ثم خرجت أنت من السجن لتجد الديون تنتظرك وقد فقدت كل شيء.. والدك ومالك .. فخرجت هائما من مصر ثم فتح الله عليك ويسر لك في سنوات قليلة ما يعجز العقل عن تصديقه..


علمتني يا جدي اليقين.. اليقين والثقة بالله وفقط ، كنت أجدهما في صوتك ونظرتك وسلوكك قبل كلامك..

علمتني الاستغناء بالله عن الناس؛ فقد كنت انت كذلك، مستغن بالله فقط..

علمتني أن الإنفاق لا يكون الا على قدر الحاجة الضرورية فقط ، إلا إذا كان لله فإنه يكون بلا حساب ولا سؤال ولا عدد..

علمتني ألا يفوت وردي من القرآن يوما مهما شغلتني المشاغل.. علمتني أن الدنيا بيدي والمال ليس لي.. وأن الجسد ليس للراحة والنوم والأكل..


ولن أنس أبدا آخر مرة رأيتك فيها استدعيتني وأخبرتني أنك تريد أن تتصدق بكل ملابسك الا قليلا وانك تريدني ان اساعدك في هذا.. ووعدتك أن أكتم هذا عنك مادمت حيا..

بعدها بأيام قلائل من الله عليك بالعمرة وزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد غياب 8 سنوات .. ثم عدت وفور عودتك أصابك المرض وأنت الذي لم تمرض في حياتك أبدا رغم تقدم عمرك يا حبيبي فمكثت عشرة أيام ثم لقيت الله عز وجل.. يشهد الجميع بأنك كنت تصلي وتردد الأذان وأنت على فراش المرض وكنت ترفع سبابتك الى السماء كثيرا كثيرا.. 

وأنا أشهد يا جدي أنك أحببت لقاء الله كما لم أر أو أسمع في حياتي..


لم أكن أريد أن أصدق أنك لست بالأسفل.. ركضت الى سريرك وغطائك وعطرك وأغراضك.. بكيت وبكيت ولكنه فيك قليل يا حبيبي.. تمنيت أن أظل ولا أمضي.. رأيتك في كل زاوية ووجدت رائحتك في كل شيء..

آلمني أنك رحلت من دون أن أراك أو أن أقبل يدك ذات الجلد الرقيق المليئة بالعروق والتجاعيد.. أو تحتضنني وتربت على رأسي كما كنت تفعل دائما..

تمنيت لو أستمع إلى حكاياك وكلامك وخواطرك أكثر.. تمنيت لو أنني حدثتك لفترة أطول واستشرتك أكثر.. تمنيت لو استمعت إلى ضحكتك وخشوعك ودعائك وبكائك من خشية الله أكثر.. 

تمنيت لو أنني ما تركت الجلوس معك لحظة واحدة.. لو كنت أدري بأنك راحل لكنت ملأت عيني من وجهك ونظرتك وبسمتك..

ألم الفراق لا يزول

اللهم ارحم جدي وارفع درجته في عليين.. اللهم مد له في قبره مد بصره واجمعنا به في الفردوس الأعلى حيث لا نصب ولا تعب ولا فراق




مين فات قديمه تاه ..